فصل: من فوائد القاسمي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والاستخدام أشدّ من ذلك لأنّه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر.
و{ثم} في قوله: {ثم أصبحوا بها كافرين} للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنّها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنّما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصوّر المتكلّم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها، فتدلّ على أنّ الجملة المعطوفة لم يكن يُترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم.
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} في سورة البقرة (85).
والباء في قوله: {بها} يجوز أن تكون للسببية، فتتعلّق بِ {أصبحوا}، أي كانت تلك المسائل سببًا في كفرهم، أي باعتبار ما حصل من جوابها، ويحتمل أن تكون «للتعدية» فتتعلّق بـ {كافرين}، أي كفروا بها، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص، أي ما كفروا إلاّ بسببها، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه، فهو تخصيص ادّعائي، أو هو تقديم لمجرّد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها.
وفعل {أصبحوا} مستعمل بمعنى صاروا، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريّث فيه لأنّ الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال.
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام، سألوا مثل هذه المسائل، فلمّا أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا، مثل ثمود، سألوا صالحًا آية، فلمّا أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها، وهذا شأن أهل الضلالة متابعةُ الهوى فكلّ ما يأتيهم ممّا لا يوافق أهواءهم كذّبوا به، كما قال الله تعالى: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم مُعرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} [النور: 48، 49]، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سَلام.
وقريب ممّا في هذه الآية ما قدّمناه عند تفسير قوله تعالى: {قل من كان عدوًّا لجبريل} في سورة البقرة (97).
فإنّ اليهود أبغضوا جبريل لأنّه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم، وتعطيل بيت القدس، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال.
وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى، وكانا مقدّسين عند اليهود، فلمّا شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلهما كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متّى والإصحاح الثالث من مرقس.
والمقصود من هذا ذمّ أمثال هذه المسائل بأنّها لا تخلو من أن تكون سببًا في غمّ النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يَكره ممّن يُحبّه.
ولولا أنّ إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قومٌ من قبلهم لكانت هذه المسائل محرّمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر.
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها، فالحمد لله الذي منّ باستضوائها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: سألوا هذه المسألة، لكن لا عينها، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال. وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير: {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي: بسببها. حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به، ويفعلوه. وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أُمِروا بها تركوها فهلكوا. والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له.
تنبيهات:
الأول: روى البخاريّ في سبب نزولها في «التفسير» عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً. فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل، تضلّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ} حتى فرغ من الآية كلها.
وأخرج أيضًا عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا... قال: فغطّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم خنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان» فنزلت هذه الآية: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
وروى البخاري أيضًا في كتاب «الفتن» عن قتادة: أن أنسًا حدثهم قال: سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوْه بالمسألة. فصعد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ المنبر فقال: «لا تسألوني عن شيء إلاّ بينت لكم. فجعلتُ أنظر يمينًا وشمالًا، فإذا كلّ رجلٍ، رأسه في ثوبه يبكي. فأنشر رجل- كان إذ لاحى يُدْعى إلى غير أبيه- فقال: يا نبيّ الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة». ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبحمدٍّ رسولًا. نعوذ بالله من سوء الفتن.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت في الخير والشرّ كاليوم قط. إنه صوّرت لِيَ الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط».
فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء}.
وفي رواية: قال قتادة يُذْكَرُ- بالبناء للمجهول- هذا الحديث... إلخ.
وروى البخاري أيضًا في كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنّة» في باب ما يكره من كثرة السؤال، عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر. فلما سلّم قام إلى المنبر فذكر الساعة. وذكر أن بين يديها أمورًا عظامًا. ثم قال: «من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا». قال أنس فأكثر الأنصار البكاء، وكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: فقال أنس: فقام رجل فقال: أين مدخليْ يا رسول الله! قال: النار. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: «أبوك حذافة». قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني. فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفًا في عُرْض هذا الحائط وأنا أصلي. فلم أر كاليوم في الخير والشر».
وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعتُ بابنِ قطّ أعقَّ منك. أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أَعْيَن الناس؟
قال عبد الله بن حذافة: والله! لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
وروى ابن جرير عن السدّي قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام فقام خطيبًا فقال: سلوني.- نحو ما تقدم- وزاد: فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: رضينا بالله ربًا.. إلخ.
وزاد: وبالقرآن إمامًا، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به حتى رضي.
وأخرج أيضًا عن أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر. فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: في النار.- نحو ما مرّ- وفيه: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ}» الآية.
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: وبهذه الزيادة- أي: على ما في البخاريّ من قول رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أين أنا؟ قال: في النار.- يتضح أن هذه القصة سبب نزول: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} الآية، فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة، بخلافها في حق حذافة فإنه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه، فبيّن أباه الحقيقيّ، لافتضحت أمه، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال. انتهى.
وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي البختري عن عليّ رضي الله عنه قال: لما نزلته هذه الآية: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كلّ عام؟ فسكت، قال ثم قالوا: أفي كلّ عام؟ فقال: لا. ولو قلت نعم لوجبت. ولو وجبت لما استطعتم. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ} الآية.
قال الترمذي: غريب وسمعت البخاريّ يقول: أبو البختريّ لم يدرك عليًّا.
وروى ابن جرير ونحوه عن أبي هريرة وأبي أمامة، وكذا عن ابن عباس، قال في الآية: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإن نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه.
قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل. إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.
الثاني- قال ابن كثير: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته. فالأوْلى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لا يبلغني أحد عن أحدٌ شيئًا. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سُلَيم الصدر. ورواه أبو داود والترمذي.
الثالث- قال الإمام ابن القيم في «إعلام الموقعين»:
لم ينقطع حكم هذه الآية. بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه. بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله. ومن هاهنا قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا. لمّا سأله عن رفيقه عن مائه: أطاهر أم لا؟
وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعله يسوءه إن أبدي له. فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله. فإنه سبحانه يكره إبداءها، ولذلك سكت عنها.
وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها. وأما المقصود أولًا وبالذات- كما يفيده تتمتها- فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي.
ويدل له، ما رواه البخاري عن سعد بن أبي وقاص: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أعظم المسلمين جرمًا، من سأل عن شيءٍ لم يحرّم فحُرِّم من أجل مسألته».
فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه. وعن أبي هريرة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم. فإنما أهلكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأْتُوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»، رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.
وعن أبي ثعلبة الخُشَنِي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها. وحدّ حدودًا فلا تعتدوها. وحرّم أشياء فلا تقربوها. وترك أشياء، من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها». رواه الدارقطنيّ وأبو نعيم.
وعن سلمان الفارسي: قال سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: «الحلال ما أحلّ الله في كتابه. والحرام ما حرّم الله في كتابه. وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلّفوا». رواه الترمذي والحاكم وابن ماجة.
وأخرج الشيخان عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ. وكان يعجبنا الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع.
وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها.
ولمسلم عن النوّاس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلاَّ مسألة. كان أحدنا، إذا هاجر، لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم.